سوق الانتيكات في مصر تزدهر بالشتاء وتشحب في الصيف ويختلط فيها الأصلي بالمقلد

سوق الانتيكات



انتشرت على أيدي الرعايا الإيطاليين واليونانيين في عشرينيات القرن الماضي وأشهر مناطقها خان الخليلي والزمالك والمدن الأثرية

تعتبر تجارة التحف والعاديات (الانتيكات) من اقدم النشاطات التجارية والفنية في مصر. وبرغم العوامل العديدة التي أثرت في حركة هذه السوق صعوداً وهبوطاً في فترات معينة، ما زال لتجارة الانتيكات بريقها وجاذبها خاصة لدى طبقات وفئات معينة من الناس. وفي المقابل ما زالت يتوارث هذه التجارة عائلات وبيوتات جيلا بعد جيل.

لتجارة التحف والانتيكات وسوقها اسرار وقواعد لا يعرفها الا قلة من الخبراء. وهي مثل أي سوق لها مواسم، وفيها الأصلي والمقلد والنادر، ومنتجاتها قد تكون من انتاج معامل محترفات عالمية عريقة او انتاج فنانين افراد مشهورين ممهورة بأناملهم.

«الشرق الأوسط» حاولت الاقتراب من سوق التحف في مصر للتعرف على بعض اسرار هذه التجارة من أفواه أصحابها. وفي البداية كان لا بد من التمييز بين كلمة «انتيك» وكلمة «تحف» في مصطلحات تجار التحف والانتيكات في مصر. فكلمة «انتيك» تعني القطع الأثرية القديمة التي يفوق عمرها المائة سنة، فتشمل مقتنيات القرن التاسع عشر الميلادي وما قبله من العصور الاسلامية والقبطية والفرعونية. وهي تنوقلت بالبيع أو الاهداء بين الملوك والأمراء والاعيان من مصر والعالم، خاصة انه حيث لم تكن هناك قوانين تحظر تداولها. وهذه التجارة انتهت عملياً منذ انشاء المتاحف التي استوعبت هذه الآثار وسن القوانين التي حظر الاتجار بها. أما «التحفة»، كما يعرّفها أصحاب هذه المهنة فهي القطعة التي قل مثيلها أو التي لا تتكرر، فإن تكررت تدنّت قيمتها، ومنها التماثيل واللوحات الممهورة بأسماء أشهر الرسامين والنحاتين العالميين، وقطع الاثاث والخزف الموقعة بأسماء معامل الماضي المميزة التي ما عادت موجودة اليوم. وعلى هذا فالتجارة المعروفة الآن في مصر بتجارة الانتيكات... ليست الا تجارة تحف فقط.

مصدر التحف


* في جولة «الشرق الأوسط» سألنا قدري حسن، أحد أشهر تجار التحف بوسط القاهرة، من أين أتت القطع النادرة الى تجار الانتيكات المنتشرين في منطقة خان الخليلي والزمالك بوسط القاهرة؟

فأجاب «عرفت تجارة الانتيكات في مصر قبل بدايات القرن العشرين على أيدي الرعايا الايطاليين واليونايين الذين كانوا أول من وضعوا قواعد هذه التجارة. وكانت منطقة خان الخليلي بحي الحسين هي أول سوق للتحف القديمة في مصر، ثم تلتها منطقة وسط القاهرة وتحديداً شارع هدى شعراوي في ثلاثينات القرن العشرين، الى ان أصبحت أكبر سوق لتجارة التحف الآن في حي الزمالك بالقاهرة، حيث يوجد تجمع لأكثر من عشرين متجرا كبيرا تعرض النادر من النجف (الثريات) والشمعدانات والآثاث والفضيات والخزفيات وغيرها. وقد ازدهرت سوق التحف والانتيكات في مصر حتى أصبحت ثاني سوق في العالم للتحف بعد فرنسا في الاربعينات من القرن العشرين». وتابع قدري حسن كلامه شارحاً «قبل القرن العشرين كانت هناك تجارة للانتيكات بمعناها الصحيح أى القطع الأثرية سواء الاسلامية أو القبطية أو حتى الفرعونية، ولم تكن قد سنت قوانين تحظر تداول مثل هذه الآثار سواء بالبيع أو الأهداء. وكانت أغلب منازل رجال الدولة تفرش بالآثاث العربي الاسلامي المصنوع في العصور الاسلامية الوسطى ...اما التحف الموجودة الآن في أيدي تجار الانتيكات أو في بيوت من توارثوها عن أجدادهم أو محبي اقتناء التحف فقد جاءت الى مصر من أوروبا في عصر الخديو اسماعيل مع افتتاح قناة السويس عام 1869. وفي هذه الفترة اخذ معظم الأمراء وكبار رجال الدولة يؤثثون منازلهم من هذه المصنوعات الفرنسية الطرازات لتأثرهم بالثقافة الفرنسية وبكل ما انتجته، حتى اذا أراد الواحد منهم تغيير أثاث منزله باعه في مزاد. فكانت هذه هي نواة سوق التحف في مصر. إذ كانت هذه القطع تصل الى أيدي التجار المتخصصين في هذه المهنة، ومن أشهرهم كازاتي وأرقش. اما على صعيد المقتنين فقد كان أشهر مقتني التحف الملك فاروق والأمير محمد علي توفيق الذي يشهد قصره الذي تحوّل الى متحف الآن على ولعه باقتناء التحف النادرة. فهذا القصر يحتوي على آلاف القطع النادرة من السجاد وارائك الصالون والنجف والشمعدانات واللوحات والمخطوطات والخزف والزجاجيات وغيرها».

ويتابع قدري حسن «ازدهرت تجارة الانتيكات في مصر مع بدايات الخمسينات وثورة يوليو 1952، عندما بدأ الرعايا الأجانب يغادرون مصر، فباعوا أثاث بيوتهم ولم يأخذوا معهم الا ما خف وزنه خاصة اللوحات (التابلوهات) التي تعاني السوق المصرية من ندرة فيها حتى الآن. وظل هذا الرواج في السوق مستمرا حتى السبعينات مع ظهور طبقة الاغنياء الجدد مع عصر تجارة الانفتاح في مصر. الا ان هذا الرواج الكبير أغرى المزيفين ونوعية أخرى من التجار لا تهمها السمعة الحسنة بقدر ما يهمها المكسب، فبدأوا تزييف القطع الاصلية وتقليدها».

الأصلي والمقلد في الانتيكات

* يقول كثيرون من تجار التحف المصريين إن السوق تشهد حالة من الركود النسبي في تجارة الانتيكات منذ عام 1999بسبب الركود الاقتصادي العام، وحتماً تتأثر تجارة الانتيكات والتحف بالجو العام لأنها تجارة كماليات. وعن أشهر أنواع التحف المتداولة في السوق المصرية الآن، يقول منير النوبي، أحد أشهر تجار منطقة الزمالك، «اذا بدأنا بالتحف فأشهرها التحف البرونزية وخاصة النجف (الثريات) من طراز لويس الخامس عشر (لوي كانز) ويتميز بكثرة الزخارف والتفاصيل والانحناءات، وهناك نجف فرنسي آخر طراز لويس السادس عشر (لوي سيز) الذي يمتاز بدقة الصناعة مع الخطوط المستقيمة او المستديرة البسيطة وتبدأ أسعار هذا النوع من ثلاثة آلاف جنيه للنجف الصغير. أما النجف التركي فيلاقي اقبالا كبيرا في السوق المصرية لأنه مصنوع من كريستال «بوهيميا» الشهير كما ان طريقة صناعته انقرضت الآن ويتميز بألوانه الزاهية وفناراته التي كانت توضع بداخلها الشموع قبل استعمال الكهرباء، وله أحجام مختلفة».

لكن ماذا عن النجف الفرنسي الذي يعتبر من التحف النادرة؟

ـ «أغلى أنواع النجف الفرنسي المعروف بنجف «غاليه»، وكان يصنع في مصنع إميل جاليه» بفرنسا ويتميز برسومه الكثيرة في طبقات بعضها فوق بعض مكوّنة أشجاراً وزهوراً. وقد ظهر هذا النوع في بدايات القرن العشرين الى أن دمّر المصنع خلال الحرب العالمية الثانية. ولهذا النوع النادر اهمية وقيمة كبيرتين في السوق المصري حيث يصل سعر أصغر نجفة منه الى عشرين ألف جنيه». ويضيف أما أشهر أنواع الخزف فهو الـ«سيفر» الفرنسي الذي تطعّم به علب المجوهرات، والموبيليا، والـ«مايسن» الألماني البديع، والمزهريات (الفازات) الصينية من عصر سلالة مينغ الامبراطورية التي حكمت الصين خلال القرن السابع عشر الميلادي، وتمتاز برسومها وألوانها الجميلة الرائعة الصنع». وعن السجاد يقول النوبي «أهم أنواع السجاد المرغوبة في السوق المصري السجاد الايراني المعروف في مصر بـ«السجاد العجمي»، بأنواعه المختلفة مثل الكاشان والأصفهان والتبريز، وكلها تحمل مدن انتاجها، وتعتمد قيمة كل سجادة بعدد عقدها ونوعية صوفها او حريرها او طبيعة صباغها. ويلي السجاد الايراني في الترتيب في السوق المصري السجاد التركي ثم السجاد الأفغاني».

فضيات متنوعة

* من جهة أخرى، تتنوع الفضيات في سوق التحف بمصر فنجد منها الأباريق والتماثيل والصناديق والأدوات الصغيرة. وأجود أنواع التحف الفضية عموماً هي التحف الانجليزية ثم التركية فالروسية فالفرنسية. وعن مميزات كل قطعة ومعرفة الأصلي من المقلد منها، يقول قدري حسن «تتميز كل قطعة أو تحفة بتاريخ صناعتها واسم صانعها والمادة المصنوعة، وأيضا الألوان والحجم ومقاييس الحجم ونسبه، وكلها معايير تخفض أو ترفع من سعر التحفة وقيمتها. الخبرة هنا يتوارثها تجار المهنة عن بعضهم، وأيضا باستعانتهم بمعلومات الدليل العالمي الخاص بالتحف الذي يستدل منه على مكانة كل قطعة وأصالتها. والكثير من القطع قد خرج من السوق المصرية عن طريق البيع أو التهريب خارج البلاد حيث تستقطبها المتاحف العالمية وتجار التحف في العالم وهو ما حدث بشكل خاص مع التابلوهات واللوحات الزيتية. ولا توجد في السوق المصرية لوحات لأشهر الرسامين العالميين، والموجود فقط لوحات تتبع مدارس فنية لأكبر الفنانين في العالم مثل بيكاسو وفان غوغ، ويصل سعر أغلى اللوحات الآن الى خمسة عشر ألف جنيه مصري. ويرجع البعض خلو السوق المصرية من هذه التابلوهات الى خروجها مع الجاليات التي كانت تعيش في مصر حتى الخمسينات، ثم سافرت الى اليونان وايطاليا وفرنسا وغيرها وأخذت معها هذه اللوحات».

أما القطع المزورة أو المقلدة فيؤكد قدري حسن انها «لم تظهر في السوق المصرية الا في عقد السبعينات وظهور طبقة جديدة من الاغنياء لم يكن من السهل عليها التعرف على أصلية القطعة. ويحدث هذا غالبا أثناء المزادات ومع دخول تجار جدد دخلاء على المهنة. وأكثر القطع التي يسهل تزييفها التابلوهات والزجاجيات والخزف الصيني. أما الأخشاب والأثاث وبعض التماثيل فيصعب تقليدها لأنه من السهل تمييز خاماتها ان كانت اصلية قديمة أو جديدة. لذلك يجب الانتباه والحذر عند شراء اللوحات والتماثيل والأثاث والتأكد من أنها تحمل تواقيع صانعيها من الفنانين العالميين أو المعامل الشهيرة».

رحلة التحف ومواسمها

* السوق المصرية أيضا مليئة بالتحف والمقتنيات المصرية الصنع التي تجد طريقها الى الأسواق العالمية خاصة السوق الفرنسية، التي تطلب التابلوهات والتماثيل التي صنعها أشهر فناني القرن العشرين من المصريين أمثال: محمود مختار ومحمود سعيد وصلاح طاهر. فالمقتنون العالميون يعرفون أعمال هؤلاء من خلال الدليل العالمي للمقتنيات الذي يصدر كل عشر سنوات باسماء الفنانين العالميين مع نبذات عن أعمالهم وتاريخهم. كما يذكر الدليل أيضا أسعار أعمال هؤلاء، فتبدأ أعمال الفنان التشكيلي محمود سعيد في الاسواق الأوروبية من ثلاثة آلاف جنيه. وتتنافس السوقان المصرية واللبنانية في تجارة التحف في الشرق الأوسط وتشاركان في السوق العالمية.

ويعتبر الشتاء هو الموسم الحقيقي لتجارة الانتيكات في مصر لأنه يرتبط بالسوق الفرنسية التي تظل مغلقة خلال فترة الصيف. وتصدّر مصر حالياً للأسواق العالمية التحف العربية ـ الاسلامية الطراز «الأرابيسك» التي برع الأرمن خصوصاً في صنعها منذ عصر الخديو اسماعيل وحتى الخمسينات. وتتميز أعمالهم من أطقم الصالونات والأرفف والمشربيات بالتطعيم المتقن بالصدف والعاج. وهم أول من أدخلوا التطعيم في هذه الصناعة، وللعلم في مجال التحف الخشبية هذه تعد تحف «الأرابيسك» السورية والتركية اقوى منافس للمصنوعات المحلية في السوق المصرية.

ويقول مجدي محمود، أحد كبار تجار التحف في خان الخليلي، أن «من أبرز التحف المتداولة الآن في السوق المصرية بعض التحف التي انتجتها المصانع المصرية في أوائل القرن العشرين خاصة في صناعة الخزف البورسلين والسجاد. فمن أشهر الفازات المصنوعة من البورسلين فازة تسمى «سورناجا» نسبة الى اسم المصنع الذي ظل ينتجها حتى الثلاثينات، وتتميز بزخارفها وألوانها ودقة صناعتها وامضاءات صانعيها. كما اشتهرت مصر بانتاج السجاد الأسيوطي الذي وصل الى مستوى رفيع في الربع الأول من القرن العشرين ويتميز بخاماته المصنوعة من أجود أنواع الصوف وألوانه القليلة وزخارفه البسيطة الرائعة». وكما هي الحال في الأزياء والاكسسوارات هناك أيضا موضة للتحف والانتيكات تستمر من خمس الى عشر سنوات ثم تتغير، فالموضة العالمية الآن للتحف تسمى «الأر نوفو» (الفن الحديث) وهو طراز فني ساد في أوائل القرن العشرين وتتميز فيه التحف خاصة الأثاث بالبساطة واستخدام الخطوط الهندسية والدوائر والانحناءات، وطريقة وصنع اللاكيه. وتتميز فيه التماثيل بالانسيابية ولا تكون بالحجم أو التفاصيل الطبيعية. وتنتشر الآن في فرنسا موضة البايوهات الخشبية التي تسمى «أمبير» نسبة الى الامبراطور نابليون بونابرت، ويتميز هذا الطراز بزخارفه المعدنية الفرعونية.

اخيراً، تعد مصر من البلاد القليلة التي توجد فيها قوانين تحظر بيع التحف التي تزيد أعمارها عن مائة سنة، وتكون لها علاقة أو تمثل حضارة أو تاريخ مصر سواء كانت قطعا فرعونية أو قبطية أو رومانية أو اسلامية ـ حتى نهاية العصرالعثماني وأسرة محمد علي ـ، بالاضافة الى انها تحظر أيضا بيع الخناجر والسيوف والدروع والبنادق والايقونات والنسيج المصنوع بطريقة «السيرما» القديمة ـ وهو عبارة عن حرير مطرز بأسلاك الفضة أو الذهب ـ. ولهذا لا وجود للتحف الأثرية الاسلامية في تجارة الانتيكات في مصر بل يقتصر الأمر على التحف الأوروبية.