انتيكات وتحف خان الخليلي واكثر من 600 عام من السحر والفن




سحر الشرق وعبق التاريخ واصالة الماضى حيث الفن والابداع والروعة والاقناع انه خان الخليلي مدرسة تعليم فن الصناعات اليدوية ونقش وحفر القطع الصماء من الحجر والمعادن لتتحول الى تحف فنية وانتيكات رائعة التصميم تبرز مهارة الفنان المصرى الذى توارث فنه وحرفته عن اجداده.

في روايته الشهيرة (الرحلة إلى الشرق) يتمنى الكاتب الألماني هيرمان هيسه أن يبدأ حياته من جديد، رحالة يشد الرحال إلى المشرق متلفعاً بعباءة الغموض والسحر، ليصل أخيراً إلى مبتغاه في خان الخليلي، حيث يتعلم فنون السيمياء ويقضي حياته درويشاً في هذا الخان العريق، مسحوراً بالنور الطافح والألوان والعطور ورماد الجنيات والعفاريت! وخان الخليلي واحد من أعرق أسواق الشرق، يزيد عمره قليلاً على 600 عام، ومازال معماره الأصيل باقياً على حاله منذ عصر المماليك وحتى الآن.

لو عدنا بالزمان إلى الوراء كثيراً فسوف يطالعنا المؤرخ العربي الأشهر (المقريزي) الذي يقول إن الخان مبنى مربع كبير يحيط بفناء ويشبه الوكالة، تشمل الطبقة السفلي منه الحوانيت، وتضم الطبقات العليا المخازن والمساكن، وقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى منشئه الشريف (الخليلي) الذي كان كبير التجار في عصر السلطان برقوق عام 1400م.

وإذا كان المثل الشعبي يقول: إن (الرجل تدب مكان ما تحب)، فإن أول دبة على أرض الخان لابد أن تكون في مقهى الفيشاوي، الذي يزيد عمره عن مائتي عام، وهو من أقدم مقاهي القاهرة، وكان الكاتب الكبير نجيب محفوظ من أشهر رواده في فترة الستينات من القرن العشرين.

عبقرية المكان في مقهى الفيشاوي الذي يتصدر الخان تستطيع أن تحتسي الشاي الأخضر، وتثرثر في أي شيء كيفما شئت، قبل أن تبدأ الجولة في الحي العتيق وليس هناك ما هو أمتع من التجوال سيراً على الأقدام داخل أزقة وحواري تحتاج إلى عبقرية في فك ألغازها، وإلى حاسة سادسة لمعرفة طلاسمها، فالأزقة متراصة كحبات عقد، متداخلة كقوس قزح متعدد الألوان، ولا يعرف أحد حتى الآن الفلسفة المعمارية التي بني على أساسها خان الخليلي، فالأرض مبلطة بحجر بازلتي أسود لامع، والسوق مسقوف بخشب تحدى الزمن وعوامل التعرية، والشمس تتسلل حوانيت عديدة تشكل مع بعضها سراديب مليئة بالكنوز والتحف النادرة، والمصنوعة بمهارة.

وإذا بدأت الرحلة في الخان فلابد وأن تلقي نظرة على ما تبقى من (مشربيات) مطلة على الشارع أو الحارة، وأسبلة جميلة مشغولة واجهاتها بالنحاس وفيها أحواض الماء التي كانت تروي العطشان وعابر السبيل في الزمن الذي كان. ويحتاج زائر الحي إلى عبقرية أو حساسية خاصة في المرور داخل الأزقة الضيقة وسط زحام أسطوري من البشر والمقاعد الخشبية التي رصها أصحاب المقاهي لجذب الرواد، وبمجرد أن تدخل الشارع يتناهى إلى الأسماع عبارات الترحيب المصرية خفيفة الظل، وكلمات أولاد البلد المرحبة تدعو الزائرات والزائرين للفرجة.. و(اللي ما يشتري يتفرج). ولو دخلت أحد الحوانيت فإن البائع يستقبلك بعبارة (مصر نورت) ويرد الزائر الذي له خبرة بعالم القاهرة السحري ومفرداتها اللغوية (مصر منورة بأهلها)، ويبدأ في عرض ما لديه من بضائع، لا تفارقه ابتسامته، وكلماته المتدفقة حول جودة بضاعته، وأنها صنعت خصيصاً لعشاق الفن اليدوي. وتجار الخان خبراء في فن البيع، ورثوا التجارة والشطارة عن الأجداد، وهم يعرضون الأصيل والمزيف من البضائع، ولهم ولع عجيب بالمساومة، كما يتسمون بصبر وجلد على إقناع الزبون.

كان ياما كان

وحي خان الخليلي هو واحد من ثمانية وثلاثين سوقاً كانت موزعة أيام المماليك على محاور القاهرة. ويقع هذا الخان وسط المدينة القديمة فوق مقابر الخلفاء الفاطميين سابقاً.

وكان المعز لدين الله قد استحضر معه من (القيروان) توابيت ثلاثة من أسلافه ودفنهم في مقبرته، حيث دفن هو وخلفاؤه أيضاً، وقد أمر الخليلي بنقل المقابر إلى أماكن أخرى وتأسيس سوق للتجار.

والأسلوب الذي كانت تعرض به البضائع في القاهرة القديمة حيث كانت تتلاصق الأسواق وتمتلئ الحارات بالحوانيت التي تعرض نفس البضاعة بأسعار متفاوتة، أمر أشبه ما يكون بمعرض دائم ومستمر للبضائع المختلفة، مما يتيح فرصة ممتازة للمشتري في أن ينتقى ما يريد ويختار الأجود.. ويفاصل ويساوم ليحصل على الأمتن والأرخص.

هنا بضائع من كل صنف ولون، من الذهب والماس والفضة إلى أوراق البردي التي تحمل كلمات هيروغلوفية وتمائم وأيقونات وقصائد غزلية، ونقوشات باللون الأزرق تحكي في اختزال مدهش أجمل حكاية عشق في التاريخ (حكاية إيزيس وأوزوريس) التي يقبل عليها السياح الأجانب.

عين الحسود

كرنفال الزائرات والزائرين لحي خان الخليلي يتداخل مع ملابس مزركشة رصها أصحاب الحوانيت كنوع من العرض والاغراء والجذب على واجهة المحلات، وتتدلى مئات وربما آلاف (المسابح) داخل فترينات العرض، أو في أيدى صبية صغار يعرضون أنواعاً شتى من المسابح، بعضها مصنوع من بذر الزيتون والبلاستيك وتسمى (نور الصباح)، وبعضها الآخر ينتمي لفصيلة الفيروز والمرجان والكهرمان واليسر، ومنها ما يصنع من خشب الصندل، ويقول أحد الصناع المهرة إن المسبحة تصنع على آلة يدوية صغيرة ودقيقة اسمها (المخرطة). وفي خان الخليلي تحرص النساء من كل الجنسيات على شراء (العقد) الذي تتدلى منه (عين حورس)، وتصنع العقود من خامات شتى، وما على الزبون إلا تحديد طلبه وفق إمكاناته المالية، وهنا يخرج له البائع (تحفة فنية) ربما مر على صناعتها مئات السنين، يوم أن كانت القاهرة في العصور الوسطى مركزاً تجارياً عظيماً، تجلب بضائع الشرق الأقصى وترسلها في شتى طرق الملاحة في البحر الأبيض المتوسط. كان ذلك في العصر الذهبي لتجارة التوابل مع بلاد الهند والسند وبلاد تركب الأفيال وتشترى الرجال ففي القرن السادس عشر نقل إلى خان الخليلي أغرب سوق في تاريخ القاهرة القديمة والحديثة، وهو سوق (العبيد) الذي ذاع صيته في الشرق والغرب ووصفه الرحالة باعتباره من أهم الأسواق التي اختلطت فيها جميع الجنسيات.

لقد انتهي ذلك العصر بكل ما فيه من ملامح عظيمة أو تجاعيد انهيار، ونحن الآن في عصر جديد مختلف، ينظر فيه السائحون والزوار إلى البضائع المتناثرة في الأرجاء والفاترينات على أنها (هدية) من قاهرة المعز لدين الله الفاطمي، وفي المحلات الصغيرة المتلاصقة إبداع التجار في رص المشغولات الذهبية والفضية والنحاسية، ويذكرك مشهد هذه المحلات بأسواق تركيا التي تسمى (البازار) والتي تحتل شوارع هائلة تقع تحت مدينة (أسطنبول) حيث تمتد شوارع بكاملها تتخصص بنوع واحد من البضائع.. على أن أهم ما يلفت النظر في مشغولات خان الخليلي هو دقة الصناعة اليدوية، هناك محلات تعرض قلادة أو أسورة عليها نقوشات ومنمنمات قضى في نقشها صانع ماهر أياماً وربما شهور. والذهب هو الذهب مهما مر الزمان أو تغيرت الأوطان، والسياح الأجانب يحرصون على شراء المشغولات الفضية، لكن السياح العرب يحبون الذهب، وقد زحفت محلات من شارع الصاغة الشهير إلى خان الخليلي بحثاً عن (زبون) رفيع الذوق، يقدر ما بين يديه من نفائس.

كان في القاهرة الفاطمية أسواق متعددة، وساحات عامة شيدت لأغراض التجارة وهي التي تسمى (قيسارية) وقد خصصت كل واحدة منها لبيع سلعة معينة، وبعضها يبيع الأشياء التي تجلبها القوافل من الحبشة مثل العقاقير والببغاوات والتبر، وقد كان هناك أسواق خاصة للأحجار الكريمة في شارع الموسكي، لكنه استقر الآن في خان الخليلي.. عقيق ومرجان، زمرد وفيروز وأنواع أخرى من أحجار هندية، ويمنية وحبشية تجذب السياح وتخطف أبصارهم.

العطور والبخور

وتسبح في الفضاء روائح جميلة تصل إلى السائح الذي يعبر الزقاق في اتجاه شارع الموسكي حيث تكثر تجارة العطور العربية والآسيوية والأوربية، هنا عطر الملك، والعنبر، والياسمين والفل، مئات وربما الآن زجاجات ذات أشكال وألوان غريبة تحتوى عطوراً غير مألوفة تتراوح ألوانها ما بين الزيتي في لون البترول الخام، والأصفر الذهبي، والبنفسجي الممزوج بالعنبر. ونسأل تاجر يتحدى الزمن بابتسامة عن (الأسانس) الذي يتم تصنيع هذه العطور منه فقال إن ما أراه من عطور هنا يكاد يكون هو التركيبة الفعلية للعطر بدون إضافة كحول تذكر إليه، وناولني زجاجة تحتوي عطراً زيتي الملمس، فاقع الأريج وقال إن هذا العطر يتم استخلاصه من نوع معين من ذكور الغزال يسمى وعل المسك.. أما هذا الذي يخلط لونه البنفسجي بعتامة تتألق تحت الضوء فهو خلاصة البنفسج، أما زيت العنبر فيفرزه نوع واحد من الحيتان يسمى حيتان العنبر، والحوت لا يفرز هذا العنبر إلا وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أو يعانى سكرات الموت.

أما البخور فله مملكة خاصة في الخان، ويستورد من السودان وبخور العود يستورد من السعودية، ويعتقد الناس أن دخان المستكة يمنع العين والحسد، أما الكسبرة فهي زعيمة مملكة البخور ويطلق عليها الناس اسم (الفك والفكوك) أي أن من يشمها تذهب عنه العقد بلا رجعة.. أما زائر خان الخليلي فلا بد أن تكون له رجعة!